شدّد بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، في رسالة الصوم الكبير، على أنّ "الصوم الكبير مسيرة روحيّة تدوم أربعين يومًا وتقودنا إلى فرح الفصح، أي العبور نحو القيامة، غلبة المسيح المخلص على الموت. وهو الزمن الملائم لنتجدّد من خلال تأمّل أعمق بكلام الله في الأسفار المقدّسة، فنلتقي مع الرب ومع القريب بفعل مصالحة صادقة تعلو بنا على شروط إنسانيّتنا الضعيفة، بتقربنا من سر التوبة وتناولنا القربان المقدس".
ولفت إلى أنّ "مسيرة الصوم الكبير دعوة فريدة إلى التوبة، أي عودة المؤمن بقلبه وعقله إلى الله. وعلى هذه التوبة أن تشمل الإقرار بضعفنا البشري وخطيئتنا، وبتصميمنا على المغفرة والمسامحة والمصالحة"، مبيّنًا أنّ "التوبة تقتضي أن نغيّر وجهة حياتنا من ماض مثقل بالأخطاء نحو تجديد روحي في مسيرة حياتنا، وذلك بالسعي لتغيير كامل لمسيرتنا السابقة، فنجدد السير نحو الله ومعه". وركّز على أنّ "في الصوم نمتنع عن تناول بعض الأطعمة، كالإنقطاع عن الطعام واللحوم وسواها، إلّا أنّنا فيه نعيش الشبع الروحي ممتلئين من حضور الله ونعمه وتعزياته. وفيه نعود إلى الرب، فنفحص ضميرنا لنقوم علاقتنا به وبالقريب وبالذات، ونحيا الإيمان العامل بالمحبة".
وأكّد البطريرك يونان، أنّ "الصوم لا يحصر معناه بالاكتفاء بالمظاهر الخارجيّة وإتمام العادات والتقاليد ظاهريًّا. فنحن نرى البعض يكتفون بالامتناع عن الطعام والشراب، دون أن ينقوا أنفسهم من الكذب والرياء والتحايل والنميمة والتعدّي على الغير، قريبًا كان أو غريبًا. وهذا يعني تتميم الناموس أي الشريعة ظاهريًّا، دون أن يعيشوا روح الصوم بالتوبة الحقيقيّة، الّتي تتطلّب ممارسة الفضائل، وأوّلها المحبّة الصادقة والفاعلة". وأوضح أنّ "كنيستنا السريانية تفتتح زمن الصوم الكبير يوم الإثنين الأوّل منه، وتختتمه يوم سبت النور، برتبة المسامحة (الشوبقونو)، حيث يطلب المؤمنون المغفرة من الله، ويتمّمون وصيّته بمسامحة بعضهم بعضا. إنّها رتبة مؤثّرة وعميقة بمعناها، إذ يتصالح المؤمنون مع الله ومع بعضهم البعض ليستقبلوا زمن الصوم بالنقاوة والبرارة وطهارة القلب".
وأشار إلى أنّ "كلّ مؤمن مدعو إلى أن يكون شريكًا في خدمة المصالحة والعمل على إتمامها. إنّ السعي نحو المصالحة ما هو إلّا تحقيق لإرادة الرب يسوع. ولأنّ المصالحة بين بعضنا هي من عمل الروح القدس فينا، فالرب، الّذي تغلّب على مكائد الشرير بصومه أربعين يومًا في البريّة، يدلّنا على الطريق الّتي يجب علينا اتباعها"، مشدّدًا على أنّه "لا يسعنا وقد برّرنا الله وصالحنا مع نفسه، أن نقف متفرجين ننتظر ما تحدّثه محاولات المصالحة الّتي يسعى إليها القريبون منّا ومجتمعاتنا. بل يجب علينا أن ننطلق -والروح القدس مرشدنا- في مسيرة توبة حقيقيّة مفتخرين بالله، بربنا يسوع المسيح الّذي به نلنا المصالحة (رو5: 11)، كي نكتشف من جديد نعم الله السخية في صومنا، ونتطهر من الخطيئة التي تعمينا، ونخدم المسيح الحاضر في كل محتاج إلى محبتنا، فنساهم بالعمل قبل الكلام، في مواساة الحزانى والتخفيف من آلامهم الناتجة عن الظلم ومآسي الحروب والفقر".
كما ذكر أنّ "العلامة الّتي تدلّ على أنّنا نحبّ الله هي أن نحبّ القريب. ونحن، إذا كنّا على خصام بعضنا مع بعض، لا يمكننا أن نكون متصالحين مع الله. وإذا كان في جماعتنا خلاف وانقسام، فهذا يعني أنّنا لم نفهم شيئًا من عمل يسوع الفدائي من أجلنا. من هنا، فالمصالحة هي تجديد عهد المحبة بين الله والإنسان بعد قطيعة وابتعاد، وهي الإقامة والسكنى في بيت الآب، والعلامة الساطعة لتلمذتنا للمعلم الإلهي يسوع مخلصنا، كما أنّها تدبير الله لحياتنا الشاهدة لمحبّته وخلاصه".
وركّز يونان على أنّه "لا يسعنا إلّا أن نتألّم لما يكتنف عالمنا اليوم من خطايا الكبرياء والتسلّط والاستئثار والتعديات العلنيّة والخفيّة على حقوق الإنسان الضعيف"، متسائلًا: "كيف تتمّ المصالحة بين الأفراد والشعوب، وجرائم الأقوياء لا تزال تنشر الظلم والمآسي؟ إنّنا كمسيحيّين نشارك جميع ذوي الإرادة الصالحة في المسؤوليّة من أجل تحقيق مصالحة صادقة حولنا، في مجتمعاتنا وفي أوطاننا".
ولفت إلى أنّ "في خضمّ تأمّلنا بسرّ المصالحة، ونحن ننطلق في زمن الصوم المقدس، تتوجّه أنظارنا وأفكارنا وقلوبنا إلى أبنائنا وبناتنا حيث أرادتهم العناية الإلهيّة، في بلاد الشرق وعالم الانتشار، وخاصّة أولئك الّذين عانوا ولا يزالون يعانون بسبب الحروب والأزمات والاضطهادات وأعمال العنف والخطف والقتل، والّذين قاسوا آلام الهجرة والتهجير القسري عن أرضهم ووطنهم إلى بلاد أُخرى. نذكرهم جميعًا في صلواتنا، ونسأل الله أن يخفّف آلامهم ومعاناتهم، وأن يبسط أمنه وسلامه ومصالحته في العالم كله، فتنتهي الحروب وتزول الخصومات، ويسود السلام ويعم الوئام وتملك المحبّة".
إل ذلك، أعلن "أنّنا نصلّي أيضًا من أجل أن يجنّب الله العالم بأسره أخطار الأمراض والأوبئة، ولا سيما "فيروس كورونا" الّذي تفشّى في هذه الأيام في أماكن عدّة في العالم، مهدّدًا الأمن الصحي والسلم العالمي، داعين بالشفاء العاجل والتام للمصابين به. حمى الله العالم من كل خطر ومكروه".